في قلب جهة سوس ماسة، حيث تتشابك الجهود الوطنية والجهوية لمكافحة السيدا والأمراض المنقولة جنسياً، تقف أرقام وإحصائيات مذهلة تروي قصة معقدة عن التحديات والنجاحات. تشير الإحصائيات إلى أن الجهة تهدف بحلول عام 2030 إلى خفض الإصابات الجديدة بفيروس نقص المناعة البشري بنسبة 90%، وتقليص الوفيات المرتبطة به بالنسبة ذاتها، مع ضمان حصول 90% من المتعايشين والمتعايشات على العلاج.
رغم هذه الأهداف الطموحة، تظهر الأرقام الحالية حجم التحديات. في جهة سوس ماسة، بلغ عدد الحاملين لفيروس نقص المناعة البشري 5290 حالة حتى نهاية سنة 2023، موزعة بين الرجال بنسبة 54% والنساء بنسبة 46%. كما تم تسجيل 90 حالة جديدة في عام 2023. ورغم الجهود الحثيثة، يظل الوصم المجتمعي والتمييز في الخدمات الصحية عقبتين رئيسيتين أمام الكشف المبكر والعلاج. نسبة التمييز في الحصول على الخدمات الصحية بلغت 46% في عام 2022، مما يعكس حجم الانتهاكات التي يواجهها المتعايشين والمتعايشات داخل وخارج المؤسسات الصحية.
تعد جهة سوس ماسة من بين المناطق التي تُبذل فيها جهود كبيرة لمكافحة مرض السيدا. حسب التقارير الصحية الحديثة، تتزايد أعداد المتعايشين والمتعايشات بالفيروس رغم المحاولات المستمرة للحد من انتشاره. تشير الإحصائيات إلى أن عدد المتعايشين والمتعايشات بالفيروس في المنطقة تجاوز الـ5000 شخص، مع توزيع نسبي بين الجنسين، حيث يشكل الرجال نسبة 54% مقابل 46% للنساء. في سوس تتداخل التحديات الصحية والاجتماعية، يكشف داء السيدا جانبًا خفيًا من معركة حقوق الإنسان.
في هذا الربورتاج، نستعرض واقع المتعايشون والمتعايشات بالسيدا في الجهة، وكيف تؤثر هذه الوصمة على حقوقهم الأساسية. من خلال لقاءات مع ضحايا التمييز، ومختصين في الصحة وحقوق الإنسان، نبحث عن إجابات لأسئلة جوهرية: كيف يمكن كسر دائرة التمييز؟ وما هي الجهود المبذولة لتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان الحق في الصحة للجميع؟ وصمة التمييز الاجتماعي تجاه المتعايشون والمتعايشات بالسيدا.
شهادات حية لاسماء مستعارة
وصمة العار: قصص من قلب المعاناة في قلب التحديات التي تواجه المتعايشين والمتعايشات مع الفيروس، تظهر قصص إنسانية تعكس الألم النفسي والاجتماعي الناتج عن الوصم والتمييز.
“الطريق المسدود”
حياة، امرأة أربعينية من إحدى قرى جهة سوس ماسة، اكتشفت إصابتها بالسيدا بعد سنوات من زواجها. فور علم الجيران بمرضها، أصبحت منبوذة، حيث توقفت النساء عن زيارتها وأبعدت عائلاتهن أطفالهن عنها. حتى في السوق، كان الباعة يرفضون التعامل معها، وكأن مرضها وصمة لا تزول. رغم ألم الرفض، قررت حياة مواجهة المجتمع عبر الانضمام لجمعية توعوية، محاولة كسر حاجز الجهل الذي حطم حياتها. وقالت في تصريح لها: “ما كان صعبًا ليس المرض بحد ذاته، بل المعاملة. وجدت نفسي أحارب الجهل والخوف أكثر من محاربة المرض.”
“حمزة والنظرات القاتلة”
حمزة، شاب في الثلاثين، أصيب بالسيدا بسبب علاقة غير آمنة. بعد معرفته، قرر فتح صفحة جديدة، لكنه فوجئ بالوصمة التي لاحقته. في عمله، بدأ زملاؤه يتجنبونه، وسمع الهمسات خلف ظهره. حتى أصدقاؤه المقربون تخلوا عنه خوفًا من العدوى.
انكسر قلبه من العزلة، لكنه وجد في التوعية والدعم النفسي طريقًا لاستعادة ثقته بنفسه ومواجهة الوصمة.
حقوق الإنسان وقضايا السيدا.
تصريحات
التيجاني الهمزاوي، المدير التنفيذي للجنة الجهوية لحقوق الإنسان:
“بخصوص سؤالكم حول علاقة المجلس بقضايا السيدا وحقوق الإنسان، فهو موضوع مهم وشكل مجالاً لاشتغال المجلس منذ سنوات عديدة. ويمكن تناوله طبعًا من عدة زوايا، الحق في الصحة، التمييز، ومجموعة من الأمور الأخرى.
ولكن تركيز المجلس يأتي حسب معطيين أساسيين:
أولاً، الاشتغال على عدم التمييز ضد هذه الفئة التي تعيش حالة صحية قد تجلب لها الوصم والعار والتمييز والإقصاء. وبالتالي، هذا مجال أساسي لاشتغال المجلس من منظور حقوق الإنسان الذي يمنع التمييز لأي أسباب، من بينها الحالة الصحية، الأمراض، الإعاقة، وما إلى ذلك.
العامل الثاني هو اتفاقية شراكة تجمع المجلس مع وزارة الصحة والحماية الاجتماعية، والتي يتم في إطارها تكوين مجموعة من الفئات المهنية ومنفذي القانون ونشطاء العمل الجمعوي وغيرهم.” وأضاف المدير التنفيدي الهمزاوي أنه سبق أن نظمت اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان ورشات تكوينية لعناصر القوات المساعدة، والممارسين في المجال الصحي، والأطقم الطبية بالسجون. هذا العمل يهدف إلى مكافحة التمييز، خاصة مع الأيام الدولية مثل اليوم العالمي لمكافحة السيدا، لتفادي نظرة الوصم والعار وترسيخ مبدأ الكونية والمساواة.”
سكينة شطاير أخصائية اجتماعية ومسؤولة عن استقبال الأشخاص المتعايشين
صرحت الأخصائية الاجتماعية والمسؤولة عن استقبال الأشخاص المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشري بجمعية محاربة السيدا، فرع أكادير، بأن دورها يتمثل في تحسين نوعية حياة هؤلاء الأشخاص من خلال تقديم الدعم النفسي والاجتماعي وتسهيل وصولهم إلى الخدمات الصحية. وأضافت أنها تعمل على تنظيم جلسات توعوية حول كيفية التعايش مع الفيروس والحد من الوصمة الاجتماعية المرتبطة به. وأوضحت أنه يتم تقديم دعم قانوني للأشخاص المتعرضين للتمييز والوصم، فضلاً عن توفير الأدوية والتحاليل التي قد تكون مفقودة في المراكز الصحية العامة. كما أكدت على أهمية تقديم الدعم النفسي وخلق فضاءات آمنة للتعبير عن مشاعر المتعايشين، مع العمل على تعزيز إدماجهم في المجتمع من خلال الشراكات مع جمعيات أخرى. وأشارت إلى أن تغيير الصورة النمطية للمتعايشين مع الفيروس يعد مسؤولية مجتمعية لضمان احترام حقوقهم وكرامتهم.
صرح رشيد كرينجا الأخصائي الاجتماعي في جهة سوس ماسة، أضاف أن الدعم النفسي والاجتماعي المتعايشين والمتعايشات بفيروس نقص المناعة المكتسبة يعد من الأولويات. وأكد أن توفير بيئة إيجابية تساعد االمتعايشين على التكيف مع الفيروس والالتزام بالعلاج يعد أساسياً في مساعدتهم على عيش حياة طبيعية. كما أشار إلى أهمية التوعية المجتمعية بهدف إزالة الوصم المرتبط بالمرض، داعياً إلى تعزيز الدعم والمساندة لهؤلاء الأفراد.
فاطمة الشعبي أخصائية في الجانب الحقوقي
حسب الإحصائيات الأخيرة لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية، هناك 22,600 حالة معلنة من حاملي الفيروس. لكن هذا الرقم يمثل فقط الحالات المعلن عنها، أي الأشخاص الذين أجروا التحاليل وأبلغوا عن إصابتهم. في المقابل، قد يكون هناك مئات أو آلاف آخرون يفضلون إبقاء الأمر طي الكتمان، مما يشكل خطراً على المجتمع. هؤلاء الأشخاص قد لا يدرك الآخرون إصابتهم، مما يؤدي إلى تفاقم المرض وانتشاره. لذلك، هناك حاجة ماسة إلى تكثيف التوعية وتشجيع الناس على إجراء التحاليل والإبلاغ عن حالات الإصابة، لأن ذلك يحميهم ويحمي محيطهم والمجتمع ككل.
على المستوى الحقوقي، مرضى نقص المناعة أو مرضى الإيدز هم مواطنون ومواطنات يجب أن يتمتعوا بكامل حقوقهم الإنسانية، شأنهم شأن باقي المواطنين. هذا طبعاً على المستوى النظري، ولكن على مستوى التطبيق الفعلي، فإنهم لا يتمتعون بكامل حقوقهم الإنسانية، مثل الحق في التعليم، الحق في التنقل، الحق في تكوين الجمعيات، والحق في الصحة.
بالتأكيد، كل الحقوق التي يتمتع بها المواطنون، سواء كانوا مرضى أو غير مرضى، يجب أن تكون مكفولة للجميع. طبعاً، مسألة تمتع كل المواطنين بحقوقهم هي إشكالية أخرى وموضوع آخر، لكننا هنا بصدد الحديث عن مرضى الإيدز، كما لو كنا نتحدث عن مرضى السرطان أو أي مرضى آخرين، وعلى مستوى الدولة، هناك اهتمام كبير بمرضى الإيدز، حيث تقوم وزارة الصحة بوضع استراتيجيات لمحاربة هذا الداء. والمجتمع المدني، منذ ثمانينيات القرن الماضي، يشارك بدور مهم في هذا المجال من خلال جمعيات مثل الجمعية الوطنية والجمعية المغربية لمكافحة مرض الإيدز.
هناك تقدم ملحوظ فيما يتعلق بتطور الأدوية المتوفرة وتحسنها. كما أن هناك اهتماماً متزايداً من الجمعيات بهذه الفئة من المجتمع، من خلال تقديم المساعدات، وتنظيم ورش التوعية، وإيصال المعلومات الضرورية إلى المرضى بشأن هذا الداء وكيفية التعامل معه، وكيفية التعايش مع الآخرين، وحقوقهم، مثل الحق في الزواج والإنجاب.
من الجدير بالذكر أن هناك العديد من حاملي الفيروس الذين لا ينقلون العدوى ويمكنهم التمتع بحياة طبيعية، مثلهم مثل الآخرين. ومع ذلك، تظل العقليات هي المشكلة الأساسية، إذ لا يزال المرض وصمة اجتماعية لدى البعض، حيث يخاف الناس من المتعايشين، وينفرون منهم، ويرفضون التعامل أو التقرب منهم.
مرضى الإيدز هم مواطنون يستحقون كل العناية ويتمتعون بكامل حقوقهم. الحق في الصحة مكفول لهم من خلال الجهود التي تبذلها وزارة الصحة والمجتمع المدني. وغالباً ما يتلقى المجتمع المدني دعمه من الدولة أو من منظمات دولية.
للأسف، تُظهر الإحصائيات أن ثلثي المتعايشات هم نساء. والمرأة في المجتمعات الذكورية غالباً ما تعيش الهشاشة وتواجه صعوبات إضافية، مما يجعل معاناتها مضاعفة إذا كانت حاملة للفيروس. تواجه المرأة تمييزاً على أساس الجنس وعلى أساس إصابتها بالمرض، وتتعرض للاستغلال في حالة وجودها في وضعية اجتماعية هشة، مثل العمل في الدعارة أو الاتجار بالبشر.
دور المجتمع المدني في محاربة التمييز
تلعب الجمعيات والمنظمات غير الحكومية في سوس ماسة دورًا مهمًا في تقديم الدعم للمرضى. تشارك هذه المنظمات في حملات التوعية والتثقيف ضد وصمة العار المرتبطة بالسيدا، وتعمل على تقديم خدمات استشارية وطبية للحاملين للفيروس. كما تُنظم ورشات عمل ودورات تدريبية للمجتمع المدني بهدف نشر الوعي حول كيفية دعم المتعايشين والمتعايشات.
ممثل من إحدى المنظمات غير الحكومية أشار إلى أهمية هذه الجهود، موضحًا أن هناك حاجة ماسة لتوسيع هذه المبادرات لتشمل جميع المناطق. وقال: إن التحدي الأكبر يبقى في تغيير المفاهيم المجتمعية عن السيدا، والتي للأسف لا تزال تُعامل كوصمة”.
لمياء شكيري المديرة الجهوية للصحة بجهة سوس ماسة :في تصريحها للمنابر الإعلامية في اليوم العالمي لمكافحة السيدا 2024 معا من أجل مغرب بدون سيدا بدون أمراض منقولة جنسيا الذي نظم في أكادير يوم الجمعة 29 نوفمبر 2024 هذا الميثاق يهدف إلى جعل جهة سوس ماسة خالية من حالات جديدة لداء السل، الأمراض المنقولة جنسياً، مرض السيدا، وأمراض التهاب الكبد الفيروسي بحلول عام 2030. ويتضمن مجموعة من الالتزامات المتعلقة بالتحسيس، التوعية، والتشخيص الأولي لهذه الحالات.
دور الإعلام في تغيير الصورة النمطية ومواجهة الوصم والتمييز
محمد السلامي مدير نشر جريدة بلادي نيوز
يبرز أهمية الإعلام كشريك استراتيجي في التصدي لمرض السيدا بجهة سوس ماسة، حيث يتشابك الجانب الصحي مع الأبعاد الاجتماعية والثقافية. يشير إلى دور الإعلام في نشر الإحصائيات الموثوقة وتقديم تقارير ميدانية تسلط الضوء على واقع المرض، مع التركيز على مكافحة الوصم المجتمعي وتعزيز التعاطف مع الحاملين والحاملات للفيروس، إلى جانب تقديم برامج توعوية تهدف إلى الوقاية والتشخيص المبكر والعلاج.
ومع ذلك، يواجه الإعلام تحديات، أبرزها ضعف التكوين في القضايا الصحية والوصم الذي يحد من ظهور المتعايشين والمتعايشات، فضلاً عن ضرورة التوازن بين التوعية واحترام الخصوصية. ويؤكد السلامي على أهمية تعزيز الشراكة بين الإعلام والمجتمع المدني عبر حملات إعلامية مدروسة، وتنظيم دورات تكوينية للإعلاميين، واستثمار المنصات الرقمية للوصول إلى الشباب. كما يرى أن الإعلام يمكن أن يسهم في إيجاد حلول عملية من خلال فتح النقاش المجتمعي، وتحفيز المبادرات المحلية، وتعزيز الثقة بالنظام الصحي، ليكون الإعلام قوة دافعة للتغيير الإيجابي وشريكاً فاعلاً في مواجهة هذا التحدي بروح التضامن والمسؤولية.
فيرويس نقص المناعة البشري في جهة سوس ماسة ليس مجرد تحدٍّ صحي، بل هو امتحان حقيقي للقيم الإنسانية التي ترتكز على المساواة والكرامة والحق في الصحة. رغم التقدم الطبي والجهود المبذولة لتوفير العلاج والتوعية، تبقى وصمة التمييز حاجزًا أمام تحقيق العدالة الاجتماعية والإنسانية
لكسر هذا الحاجز، يتطلب الأمر تكاتف المجتمع بأسره، من مؤسسات حكومية وجمعيات مدنية وإعلام، لتغيير النظرة السلبية تجاه المتعايشين والمتعايشات، وإعادة بناء جسور الثقة والاحترام. لأن كرامة الإنسان لا تتجزأ، ومجتمعنا لن يكون قويًا ما لم يحتضن جميع أفراده دون حكم أو تمييز.
بقلم الإعلامية حنان كرامي
ميدمار ميديا جريدة إلكترونية مغربية تجدد على مدار الساعة.