ثقافة

الإسكافي و غني الحارة

كان بيته بصدر الحارة.. بيت قديم لكن به من الفخامة ما يشير الى ساكنه الغني..

في ضحى يوم  الجمعة خرج ساكنه الشيخ مروان  وهو يرفل في ثوبه الأبيض و رائحة العطر الميسكوي تزكم الأنفاس.. تسبقه الى انوف أهل الحي من المارة والمتقابلين في المقاهي .

انهالت عليه التحايا و مباركة الجمعة وكل أيامه.  وانكب عليه بعضهم ليقبل يداه وياخذ ما اندس بها من نقود شاكرا داعيا له بان يزيده الله من فضله..

على مقربة من هذا المشهد المتكرر كل جمعة وفي الأعياد ، كان هناك رجل يرقبه بعيون متأملة بها بعض الألم .. ملامحه تنبئ بخواطر وأفكار  تستنكر المشهد رغم ما يظهر به من مظاهر الجود والإحسان..  انه جاره السيد محمد يسري الاسكافي..

استمر الشيخ مروان في طريقة وكوكبة من الغارقين في فضله ترافقه الى ان  وصل لسيارته الفاخرة  فودعوه و دعوا له بالسلامة وانتظروا حتى اقلعت ومسحوا وجوههم بدخانها…

في تلك اللحظة غادر الجار محمد يسري مكانه الى وجهة ما وهو يضمر شيئا في خاطره  …

في المساء،  اثر خروجه من المسجد  بعد اداءه لصلاة العشاء.. جال بعينه حول المسجد وهو يبحث عن عناصر الكوكبة التي كانت تحلق حول الشيخ مروان سائلة من احسانه ، فوقعت عينه على اثنان منهم.  دلف السيد محمد يسري نحوهما فحياهما بود وطلب منهما ان يشرفانه بجلسة في مقهى الحي ليشربوا الشاي معه و يحدثهما في أمر…

استقبلا الدعوة بسرور ظاهر.. فور ان استقروا باماكنهم بالمقهى حتى نادى على الشاي  وشرع في الحديث مباشرة..

كنت اريدكما بأمر هام ينفعنا جميعا بدأت نظرات الدهشة تشع من عينهما…

فقال أحدهما  .. خير ..؟

أجاب  انه خير بإذن الله..

اسمعا انا افكر بتطوير عملي وتوسيعه وارغب في مساعدتكما لي ..

سال أحدهما في استغراب..

وكيف لنا ان نساعدك و نحن لا نملك الا ما يجود به المحسنون.. !!؟

قال احتاج لسواعدكما..

علق الثاني.. نعرف انك اسكافي اي صانع و مصلح للاحذية ونحن لا نفقه في حرفتك شيء..

أجاب ضاحكا في مغازلة اعرف لكن مهمتكما ستكون بسيطة ولن تكون بعيدة عن نشاطكما المعهود  ..

نظرا لبعضهما نظرة حائرة وقبل ان يعلقا بشيء استطرد..

مهمتكما ستكون التجوال لكن ليس لطلب الحسنات ولكن لنشاط تجاري..

انا اتولى صناعة الاحذية وانتما تخرجا بالبضاعة لعرضها على المحلات وسط المدينة  وسوف ارسلكما مبدئيا لمحلات تنتظر سلعتي حتى تجنيا مالا من أول يوم فلكما نسبة من الربح في كل قطعة…

استبشر الرجلان خيرا و وضعا نفسيهما تحت أمره..

في صبيحة اليوم التالي ذهب الرجلان الى محله و  استقبلهما بحرارة شاكرا ربه انه استطاع استمالتهما

رحب بهما و دعاهما لشرب الشاي الذي كان جاهزا لديه ..احتسيا  الشاي بسرعة و طلبا البضاعة و عنوان المحلات المطلوبة  فانطلقا و كلهما حماسا للشغل و الكسب..

فرح محمد يسري بما فعل  و دعا الله ان يرزقهم من فضله  ويتم عليهم نعمته.. ثم جلس وراء طاولة ممدودة عليها آليات خفيفة لصنع  الاحذية و بعض الجلود و شرع في عمله بهمة و نشاط متزايد..

قبل الظهيرة بقليل عاد الرجلان و معهما ثمن البضاعة التي تم تسليمها للمحلات التي كانت قد قدمت الطلب من قبل …بل وطلبات اخرى مكتوبة بورقة…

سعد السيد محمد سعادة غامرة و سلمهما نسبتهما من الربح كما واعد.. وطلب منهما البقاء الى جانبه وهو يعمل حتى يستفيدا و ربما يتعلما الحرفة.. وكذلك كان..

فكان السيد محمد من الحين لآخر يكلفهما بمهام بسيطة تعتبر من القواعد الأولى لحرفته كالتعرف و التمييز بين الجلود وانواع الصباغة اللازمة وافضلها وطرق تقطيع الجلود وتثبيت النعال.. وهكذا

ولم تمضي الا شهور قليلة حتى اتقنا الصنعة  و شاركاه صناعة الاحذية الى جانب توزيعها على المحلات…

بارك الله في عملهم وازداد الطلب على بضاعتهم حتى اضطر السيد محمد يسري ان يوسع العمل و يزيد من العاملين في توزيع البضاعة ويحتفظ بالرجلين الاولين الى حانبه في ورشته الصغيرة.. وكأن يختار العمال من حارته أولائك الذين كانوا يتحلقون حول الشيخ مروان طلبا لإحسانه مطأطئين الرأس في خنوع…

بمرور الأيام اخذت حلقة المتسولين تضيق وتفرغ من حول الشيخ واصبح من كانوا يستقبلونه يوم الجمعة و الأعياد وهم مادين اياديهم  لياخذوا ما يجود به عليهم .. يقابلونه الآن بابتسامات عريضة ليلقوا التحية بكل ود  وهم مرفوعي الرأس  وعلى مسافة منه حتى لا يضطروا للحرج امام يده الممتدة بالصدقة…

بدأ الشيخ يستغرب الوضع و ساوره شك في  ان أحدهم اغرى متسوليه بما هو افضل لكن شكوكه سرعان ما تبددت حين وجدهم متحلقين حول محل السيد محمد الاسكافي و بعضهم داخل المحل يعدون البضائع ويرتبونها في همة ونشاط فادرك ان الاسكافي هو من اخذ مكانه بينهم بأحسن من صدقته

صدقة جارية يزكيها الله ويضاعفها له دون انقطاع

احيا بها نفوس كانت فاقدة للأمل او مستكينة للكسل.. احياها السيد محمد بصنيعه هذآ لوجه ألله فاتسعت ومازالت تكبر مع كل صانع وكل عامل..

وهكذا كان..

ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا

صدق الله العظيم

بقلم نزهة الإدريسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى